كتب القس بولا فؤاد رياض كاهن كنيسة مارجرجس بالمطرية
إن عيد (شم النسيم) هو عيد تجديد الطبيعة، وقيامة الزهور بعد أن ظهرت عليها علامات الموت في فصل الخريف. لهذا فهو يُلهمنا بأن نفتح قلوبنا لنتنسم الحب ونتمتع بالجمال، ونلفظ من قلوبنا روائح الحقد والغيرة والكراهية لكي نصبح حقاً أحفاداً لأجدادنا الذين قدسوا هذا اليوم بكل ما فيه من جمال.
إن عيد شم النسيم هو من أقدم الأعياد المصرية، واحتفالاته الشعبية الرائعة عرفها التاريخ منذ الاف السنين.
جذور شم النسيم:
كلمة شم النسيم ليست عربية، بل هي قبطية اللفظ والمعنى. وتُكتب (تشوم إن ني سيم) وهي مُركبة من كلمتين (تشوم) وتعني حدائق و(إن) أداة إضافة معناها الزروع، ومعنى الكلمتين معاً (حدائق الزروع)
وهناك من يقول إن كلمة (تشوم) مشتقة من الكلمة المصرية القديمة (شومو) وهي تُطلق على عيد الخلق أو بعث الحياة. والمعنى الحرفي لكلمة شومو (موسم الحصاد).
جذور العيد هي فرعونية وقد أطلقوا عليه اسم عيد الربيع، وحددوا موعد الاحتفال به كل عام في يوم الاعتدال الربيعي. وقد امتد العيد عبر العصور وأُضيف له طقوس جديدة ودخلت إليه معتقدات ورموز أخرى كثيرة. ولم يكن الاحتفال بعيد الربيع مجرد احتفالاً ترفيهيًا يهتم فيه القدماء بالخروج إلى الحدائق وتناول المأكولات المرتبطة بهذه المناسبة، والتي يُرمز كلاً منها إلى اعتقاد خاص لديهم فقط، بل هو احتفال ديني وروحي أيضاً حيث كانوا يتصورون أن ذلك اليوم هو أول الزمان أو بدء خلق الكون. وأن الحياة في معتقداتهم خُلقت من محيط مائي أزلي عميق. لذلك قدسوا أكل السمك الذي يحيا في الماء، والبصل الذي أرتبط في أساطيرهم بقدرته على طرد الأرواح الشريرة، والبيض الذي يرمز إلى الخلق.
الاحتفال بشم النسيم الآن يرجع إلى نحو ٤٤٦٠ سنة وكان فرعون مصر يشارك الشعب أفراحه. وقد تعود المصري القديم أن يبدأ صباح هذا اليوم بإهداء زوجته زهرة من اللوتس، ثم يخرج الناس جماعات إلى الحدائق والحقول ليكونوا في استقبال الشمس عند شروقها. وقد اعتادوا أن يحملوا معهم لعبهم والألات الموسيقية، وطعامهم لقضاء يومهم في اللعب. وكانت الفتيات تتزين بعقود الياسمين، والأطفال يحملون سعف النخيل المُزين بالزهور. كما كانت تُقام المباريات الرياضية والحفلات التمثيلية ابتهاجاً بالعيد. وفي هذا اليوم كانوا يجتمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم قبل الغروب ليروا لحظات غروب الشمس. فيظهر قرص الشمس مقترباً تدريجياً من أعلى الهرم حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق الهرم، وتخترق أشعة الشمس قمة الهرم.
شم النسيم في المسيحية:
فلما اعتنق المصريون القدماء المسيحية بعد تبشير مارمرقس في مصر. رأوا ضرورة الاحتفال بشم النسيم كعيد قومي. حتى بعد دخول العرب مصر ظلوا يحتفلون به أعظم احتفال. وهكذا صار المسيحيون والمسلمون في كل المدن والقرى يحتفلون بشم النسيم معاً في المزارع والحدائق والحقول كعيد قومي له جذور عميقة ترجع إلى آلاف السنين. ولا دخل للدين فيه بشيء.
ولأن شم النسيم كان يأتي في الصوم الكبير الذي تأمر القوانين الكنيسة بألا تصنع فيه أفراح، وأن يُصام بالزُهد ولا يُأكل فيه اللحوم والأسماك. رتب المسيحيون أن يكون ميعاد شم النسيم الذي فيه تتفتح الزهور للدلالة على بهجة الانتصار على الموت بعد عيد القيامة مباشرة. وفي هذا معنى روحي عميق يشير إلى أنه عن طريق قيامة السيد المسيح من بين الأموات فُتح باب الفردوس مرة ثانية بعد أن كان قد أُغلق بسبب خطية أبوينا أدم وحواء. فالطبيعة التي راودها الحزن، وأصبح لا يوجد فيها سوى دموع الشتاء وحزن الخريف لصلب خالقها. حتى أن الشمس أُظلمت والقمر لم يعطي هو الأخر ضوءه، والأرض تزلزلت والصخور تشققت، والقبور تفتحت الآن في عيد الربيع تفرح بقيامة خالقها منتصراً على الموت والشيطان والخطية. ولهذا كان مناسباً أن يرتبط عيد قيامة الزهور، بعيد قيامة المسيح رب الطبيعة وإله الزهور.
لا شك أن تجديد الطبيعة في فصل الربيع إشارة تؤكد لنا حقيقة القيامة. تلك الحقيقة التي تتمثل أروع مظاهرها في قيامة السيد المسيح. ففي عالم النبات يأتي الخريف فتتساقط الأوراق، وينثرها الهواء كأنه يريد أن يُكفن بها الأزهار ، فما أن يأتي الربيع فسرعان ما نرى البراعم الصغيرة تنبثق منها من جديد، وهكذا تكتسي الزهور جمالاً فريداً.
والأنهار تأتي عليها مواسم الجفاف فتنوح وتكُف عن العطاء، ثم سرعان ما تمتلئ بالمياه وكأن الحياة قد عادت إليها من جديد.
أما في عالم في الحيوان، فنرى الجُعران إذا اقترب الشتاء يفرز سائلاً من فمه يخلطه بتراب الارض، ويُكون من هذا السائل كرة يدفن فيها نفسه مدة من الزمن ثم يخرج بعدها إلى الحياة من جديد.
ولأن شم النسيم أصبح مرتبطاً بعيد القيامة فهو لذلك يقع في الفترة ما بين (٢٧ برمهات – ١ بشنس) لأن عيد القيامة يقع ما بين (٢٦ برمهات – ٣٠ برمودة)
ويكون الإثنين ميعاده الثابت لأن الأحد هو يوم الاحتفال بعيد القيامة، وهو لا يتغير كما تنص القوانين الكنسية.
مظاهر الاحتفال بشم النسيم:
من مظاهر الاحتفال بشم النسيم خروج الناس باكراً إلى الحدائق للتنزه. حاملين مأكولاتهم المفضلة من البيض والسمك أو الفسيخ والبصل وبأيديهم الورود والرياحين لأن اعتقاداً قديماً يسود إلى الآن إن من ينام في هذا اليوم بعد شروق الشمس يظل كسلان طوال السنة!
وقديماً كانت مائدة قدماء المصريين في العيد تتكون من خمس أطعمة (البيض، الفسيخ، البصل، الخس، الحمص) إشارة إلى أصابع اليد الخمسة التي ترمز عند الفراعنة إلى العطاء الإلهي.
رموز أطعمة شم النسيم:
١- البيض: إن أكل البيض ومُهاداته في عيد القيامة أو شم النسيم قديمة جداً. فظهور البيض على المائدة في عيد شم النسيم قد بدأ مع بداية العيد الفرعوني نفسه، كأحد الشعائر المقدسة التي ترمز لعيد الخلق.
أما فكرة نقش البيض وزخرفته، فقد أرتبط بعقيدة قديمة أيضاً، إذ كان الفراعنة ينقشون على البيض الدعوات والأمنيات للعام الجديد، وكانوا يضعون البيض في سلاسل من سعف النخيل يعلقونها في شُرفات المنازل أو في أغصان الأشجار، لتحظى ببركات نور الإله عند شروقه فيحقق أمنياتهم.
قديماً كان الفراعنة يبدأون العيد بتبادل التحية بدق البيض والذي لا تُكسر بيضته تتحقق أمنياته وكان الظرفاء يقومون بعمل بيضة من الحجر!
ومن هنا جاءت العبارة الشعبية: (فُلان بيلعب بالبيضة والحجر) التي أصبحت رمزاً للغش لأن يلعب بحجر مكان البيضة.
كان للبيضة قداسة خاصة نراها واضحة في كل المُعتقدات القديمة، فقد ساد اعتقاد عند القدماء أن البيضة هي أصل الخلق. وفي مصر صُورت بعض برديات مَنف (بتاح) وهو إله الخلق عند الفراعنة جالساً على الأرض على شكل بيضة قد تم نحتها من الجماد.
وفي التاريخ القديم يعتقدون أن البيضة هي مصدر الخليقة كلها.
وظهرت المسيحية وقيمة البيضة تزداد، فجعلوها رمزاً للقيامة والحياة. إذ تخرج منها الحياة مُجسمة في صورة كتكوت. وكما أن الكتكوت ينقر بمنقاره البيضة، ويخرج منها مكتسباً الحياة من الموت، وموصوصاً صوصوة البهجة والانتصار على ظُلمة البيضة. هكذا أيضا المسيح وهو حي في ذاته استعمل سلطانه على الموت، مُتخطياً حواجز القبر، فخرج منه حياً. ولكن ليس كخروج الكتكوت بل كالأسد الخارج من سبط يهوذا وهو يُزمجر قائلاً: “«أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟»” (1 كو 15: 55) ولهذا وُجِدَ بيضاً من الرخام في قبور بعض الشهداء كاعتراف منهم بقيامة الأجساد. أما قديماً فكانوا يضعون سلاسل البيض الطبيعي بين القرابين التي تُقدم للموتى.
وفي كنيسة القديسة مريم المجدلية الخاصة بالكنيسة الروسية بالقدس. نجد رسومات للبيض الذي حملته مريم المجدلية إلى قيصر، ودللت به على قيامة السيد المسيح من بين الأموات، وعلى أن جسده الطاهر لم يرَ فساداً بل كان محفوظاً في القبر كما يُحفظ الكتكوت في البيضة.
عادة تلوين البيض:
في البداية اعتاد المسيحيون تلوين البيض باللون الأحمر إشارة إلى دم المسيح الطاهر الذي سُفك على عود الصليب. كما كان اليهود يلطخون بيوتهم بالدم لإحياء ذكرى الفصح، الذي كانوا يذبحون فيه خروفاً رمزاً للمسيح فصحنا الذي ذُبح لأجلنا (١ كو ٥ :٧)
ثم أخذوا بعد ذلك يتفننون في تلوين البيض بالألوان المختلفة خاصة وأن العيد يأتي في الربيع حيث ألوان الزهور الجميلة.
عادة تلوين البيض قديمة جداً وترجع إلى ما قبل المسيحية بأجيال فقد قيل إن القدماء كانوا يكرسون يوماً من سنتهم ليحتفلوا فيه بعيد الربيع ومن ضمن تقاليدهم في ذلك اليوم تلوين البيض إشارة إلى مناظر الطبيعة الخلابة وتفتح الزهور بألوانها وأشكالها الجميلة الجذابة.
ويُقال ان المسيحيين في فلسطين رفضوا الاحتفال بالعيد بعد صلب المسيح حِداداً، لكن أحد القديسين طلب منهم أن يحتفلوا بالعيد تخليداً لذكرى المسيح، وأن يصبغوا البيض باللون الأحمر ليذكرهم بدم المسيح الذي سفكه اليهود. فكان بيض شم النسيم ولأول مرة مصبوغاً باللون الأحمر ثم انتقلت العادة بعد ذلك إلى مصر.
٢ – السمك:
أما السمك فهو من المخلوقات التي خلقها الله كغذاء للإنسان، وسلطه عليها كما سلطه على الأشجار والحيوانات (تك ١: ٢٦)
إن السمك كان طعاماً شعبياً في مصر القديمة
“قَدْ تَذَكَّرْنَا السَّمَكَ الَّذِي كُنَّا نَأْكُلُهُ فِي مِصْرَ مَجَّانًا، وَالْقِثَّاءَ وَالْبَطِّيخَ وَالْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ وَالثُّومَ.”(عد ١١: ٥)
وكان الفراعنة والنُبلاء يمارسون صيد السمك من قبيل الرياضة وشغل الفراغ، ويكثر السمك في فلسطين ولا سيما في بحر الجليل وقد ذكر الكتاب المقدس أن سليمان الحكيم كانت له معرفة بأسماك فلسطين (١ مل ٤: ١٢)
ومن المُلاحظ أن بيت صيدا تعني بيت الصيد، وقد جاءت هذه التسمية لأن أهلها اشتغلوا بصيد السمك.
ظهر السمك المُملح بين الأطعمة التقليدية في الاحتفال بشم النسيم عند قدماء المصريين في عهد الأسرة الخامسة مع بدء الاهتمام بتقديس النيل، وقد أظهروا براعة في حفظ الأسماك وتجفيفها، وصناعة الفسيخ. وقد ذكر المؤرخ هيرودوت أن قدماء المصريين كانوا يأكلون السمك المُملح في أعيادهم، وكانت هناك أسماك معينة مخصصة للألهة فكان القاروص مكُرساً للألهة نبت، وثعبان السمك لإله مدينة هليوبوليس، أما ربة الأسماك فكانت أنثى الدولفين.
السمك في حياة السيد المسيح:
ذكر الكتاب المقدس أن السيد المسيح أكل خروف الفصح، وذُكر عنه أيضاً أنه أكل سمك. فبعد قيامته ناوله التلاميذ جزءاً من سمك مشوي، وشيئاً من شهد عسل فأخذ وأكل قدامهم (لو ٢٤: ٤٢، ٤٣)
وقد كان على الأقل أربعة من تلاميذ المسيح يشتغلون في صيد السمك، كما بارك له المجد في الخمس خبزات والسمكتين، وبارك مرة ثانية في السبع خبزات وقليل من صغار السمك، وكانت أول المعجزات مع تلاميذه هي صيد السمك الكثير (لو ٥: ٥، ٦)، وأخر معجزاته لهم هي صيد (١٥٣ سمكة) في (يو ٢١: ٨-١١).
وعندما طلبوا منه أن يدفع الجزية سُدِدَت بسمكة فتح فاها بطرس الرسول فوجد إستاراً (٤ دراهم) فدفعه عن كليهما (مت ١٧: ٢٧)
لو تأملنا طريقة خروج السمك من بيض السمك لوجدنا أنه يُخصب من دون اجتماع الذكر بالأنثى، التي تضع البيض ثم يأتي الذكر ويلقحه، وهذا يشير إلى ولادة المسيح من عذراء لم تعرف رجلاً، إذا خرج السمك من الماء يموت، وبموته يصير طعاماً للإنسان!
والمسيح خرج من حضن الآب ونزل إلى أرضنا، ليموت عوضًا عنا، ويعطينا جسده لنأكله لنحيا حياة أبدية.
“أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ».” (يو 6: 51) يُعتبر السمك الطعام الوحيد الذي لا تمنع أي ديانة أكله ميتاً، ودمه فيه، دون أن يُحسب هذا نجاسة، ودون أن يتعارض مع التعاليم التي تأمر بعدم أكل الدم والمخنوق. وترمز السمكة إلى المؤمنين فقد استخدمها المسيح كرمزاً لشعبه.
٣-البصل:
كثيرون يأكلون البصل مع السمك أو الفسيخ وهذا ليس بغريب، فمصر مشهورة بالبصل منذ أقدم العصور، وبصل مصر مشهور بكبر حجمه وحسن طعمه، وفي مصر أكل اليهود البصل، وعندما خرجوا منها حزنوا لأنهم حُرِموا من بصلها (عد ١١ : ٤-٦)
ويرجع تاريخ الثوم والبصل لآلاف السنين كغذاء ودواء، والنقوش المحفورة على معابد الفراعنة تؤكد ذلك
وقد ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت (أن قدماء المصريين استمدوا قوتهم في بناء الأهرامات من تناول البصل والثوم) وثُبِتَ أن أهل بابل في العراق أقبلوا على أكل الثوم منذ ستة آلاف سنة.
كان المصريون القدماء يُعلقون البصل في المنازل، وعلى الشُرفات، ويضعونه تحت الوسائد كما كانوا يُحرِمون أكله في الأعياد لكيلا تسيل دموعهم. فالأعياد مناسبات الفرح وليس البكاء. ومن عاداتهم دش بصلة على عتبة المنزل مع وضع بعض الماء والملح لاعتقادهم أن البصل يقضي على الأرواح الشريرة والحسد وهذه عادة متبعة إلى الآن خاصة في الأماكن الريفية.
البصل يؤكل وهو لايزال أخضراً، أي قبل أن يكتمل نضوجه، وبعد نضوجه يؤكل أيضاً، ففي أي صورة أو أي مرة من مراحل نموه حسبما نريد، نطرحه على المائدة نجده لذيذاً ومفيداً.
كل عام وكل المصريين بخير دائماً يحتفلون بعيد أجدادهم تجديداً لجذور التراث والعادات الفرعونية ليؤكد أن كلنا ننحدر إلى أصل واحد كلنا أقباط (مصريين).
بقلم ” القس بولا فؤاد رياض ”
“كاهن كنيسة مار جرجس المطرية القاهرة”