الأردن
بقلم : د عبدالقوي ابراهيم الاحمدي
استشاري تطوير اقتصاديات المعرفة التنافسية.
اليمن .
مع اقتراب عصر الذكاء الاصطناعي، تتغير القواعد التقليدية للتفوق والريادة. لم تعد القيمة المضافة للعلم والتكنولوجيا والصناعة محصورة في تراكم المعرفة أو تطوير المنتجات، بل أصبحت تتجسد في الفلسفة التي تحكم هذه المجالات وآليات تطورها. فبينما كان التعليم، والتدريب، ونقل المعلومات، وممارسة المهارات عوامل حاسمة في تحقيق التميز سابقًا، أصبحت اليوم غير كافية لمواكبة التطورات المتسارعة للذكاء الاصطناعي. فالوتيرة المتسارعة لهذه التكنولوجيا تعني أن أي مهارة مكتسبة أو نموذج تعليمي أو صناعي يمكن أن يصبح قديمًا وغير ذي جدوى في وقت قصير جدًا .
في هذا السياق، لم يعد التفوق مرهونًا بتكديس المعرفة أو حتى باستيراد وتوطين نماذج ناجحة من الخارج، كما لم يعد استدعاء نماذج ذاتية ناجحة من الماضي وتكرار تطبيقها كفيلًا بتحقيق الاستدامة والتفوق كما كان الأمر سابقًا. بل على العكس، الاعتماد على هذه الاستراتيجيات التقليدية قد أصبح فخًا يؤدي إلى التبعية والركود، وربما حتى إلى التلاشي والاختفاء من المشهد التنافسي العالمي .
من المنافسة التقليدية إلى تنافسية النماذج
لقد تحول العالم من نموذج المنافسة التقليدية إلى تنافسية النماذج، حيث لم يعد مجرد امتلاك التكنولوجيا أو المعرفة العلمية هو مفتاح النجاح، بل القدرة على تطوير نماذج عمل مبتكرة ومتجددة باستمرار. في جميع القطاعات، سواء في التعليم، أو الصناعة، أو الاقتصاد، أو حتى على مستوى الدول، أصبحت استدامة التميز مرهونة بقدرتها على ابتكار نماذج جديدة والتكيف مع التحولات السريعة .
المؤسسات الرائدة اليوم لا تعتمد على نماذج عمل تقليدية أو ثابتة، بل تتبنى استراتيجيات ديناميكية تتطور وفقًا لمتغيرات السوق والتكنولوجيا. الدول التي تحقق تفوقًا في المشهد العالمي ليست تلك التي تمتلك موارد هائلة فقط، بل هي التي تستثمر في تطوير نماذج اقتصادية، وإدارية، وتعليمية متجددة تتيح لها استدامة التقدم .
سباق الذكاء الاصطناعي: مثال على تنافسية النماذج
خير مثال على ذلك هو السباق التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي. المنافسة بين القوتين العظميين لا تقتصر فقط على امتلاك أحدث التقنيات، بل تتمحور حول من يستطيع تطوير نماذج ذكاء اصطناعي أكثر تقدمًا ومرونة .
الصين، على سبيل المثال، تركز على بناء نماذج ذكاء اصطناعي تعتمد على البيانات الضخمة، والاستفادة من تكامل تقنيات متعددة مثل إنترنت الأشياء والجيل الخامس، مما يتيح لها ابتكار منظومات ذكية تتفاعل بسلاسة مع المجتمع والاقتصاد .
الولايات المتحدة، من جانبها، تراهن على تطوير نماذج ذكاء اصطناعي أكثر تقدمًا في التحليل والابتكار، مع التركيز على الأبحاث العلمية العميقة والاستفادة من إمكانات الحوسبة الفائقة والأنظمة الخوارزمية الأكثر تطورًا .
هذا التنافس يعكس تحولًا جذريًا في مفهوم الابتكار، حيث لم يعد مجرد الوصول إلى تقنية جديدة كافيًا، بل الأهم هو مدى قدرة الدولة أو المؤسسة على تطوير نموذج عمل مرن ومتكيف يتيح لها التفوق المستدام .
الابتكار المستمر: مفتاح الاستمرارية والتفوق
في ظل هذا التحول، أصبح الابتكار المستمر ضرورة لا غنى عنها، وليس مجرد خيار. المؤسسات التي لا تطور نماذج جديدة ستجد نفسها متأخرة وغير قادرة على المنافسة، حتى لو كانت تمتلك أفضل المواهب أو أحدث الأدوات. الدول التي لا تستثمر في تطوير بيئات عمل مرنة ومبدعة ستتراجع اقتصاديًا وعلميًا، حتى لو كانت تمتلك موارد ضخمة .
التحدي الحقيقي اليوم لا يكمن في امتلاك المعلومة أو التكنولوجيا، بل في القدرة على إعادة صياغتها ضمن نماذج جديدة قادرة على التكيف والتطور مع المستقبل. في عالم يتحرك بسرعة غير مسبوقة، تصبح القدرة على الابتكار المستمر هي العامل الحاسم في تحديد من سيقود المستقبل، ومن سيتراجع إلى الهامش .